لو أن أحدا ألقى نظرة على مصر من الجو، أو أنصت جيدا للأصوات العالية فيها، فسوف يكتشف أنه بصدد عالمين مختلفين. عالم النخب فى القاهرة التى تتعارك طوال الوقت. ومعركتها الأخيرة حول التمثيل فى لجنة الدستور، التى استصحبت تهديد البعض بتشكيل لجنة أخرى موازية، وتنافس الصحف ملاحقة أخبار المقاطعة وجهود الوساطة والطعن المقدم إلى المحكمة الإدارية فى شرعية اللجنة. ذلك إلى جانب الأصداء المدوية فى مختلف وسائل الإعلام لترشيح المهندس خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية، وعاصفة النقد التى يتعرض لها الإخوان... إلخ.
العالم الآخر يعيش هموما أخرى لا علاقة بها بالضجيج الذى تثيره نخبة القاهرة. وقد تحدثت عن شواغل ذلك العالم فى مرتين على الأقل. الأولى فى 24 مارس، حين عرضت أبرز المشكلات التى تهدد المزارعين، والثانية يوم الخميس الماضى 5/4 حين نبهت أن التحديات والمصاعب التى تهدد القطاع الصناعى، والتى ألحقت أضرارا جسيمة بمئات المصانع أدت إلى وقف التصدير إلى الخارج.
ربما جاز لنا أن نقول إن الضجيج المثار فى القاهرة صادر عن نخبة المثقفين والسياسيين «المتكلمين»، أما الهموم التى يعانى منها الطرف الآخر فهى تعذب عالم المنتجين. والأولون مشكلاتهم بين بعضهم البعض، أما الآخرون فمشكلاتهم مع جهاز الإدارة والبيروقراطية بالدرجة الأولى. وللأسف فإن ضجيج المتكلمين يملأ الفضاء ويستأثر بالاهتمام، فى حين أن هموم المنتجين تقبع فى الظل، ولا يكاد يشعر بها أحد. رغم أنها الأهم والأخطر. ومستقبل البلد الذى يستنزف اقتصاده كل صباح، مرهون بمدى النجاح أو الفشل فى التعامل مع مشكلات أولئك المنتجين.
إن الريف الذى يروعه انتشار الحمى القلاعية التى تهدد بإبادة الثروة الحيوانية، وتخنقه أزمات الصرف الصحى وتدمره مشكلات اختفاء السولار وصلاحية البذور وأسعار السماد. والصناعيون الذين توشك مصانعهم على الإغلاق ويعجزون عن تصدير منتجاتهم وتعتصرهم ضغوط البنوك وفوائد الديون ــ هؤلاء وهؤلاء لا تعنيهم فى شىء معارك وضجيج النخبة القاهرية التى استولت على الفضاء وهمشت من عداها.
مشكلة نخب القاهرة أنها لا تثق فى بعضها البعض وتعانى من سوء الظن المتبادل، حيث لم تتخلص بعد من حالة الاحتراب التى انخرطت فيها طوال العقود الأخيرة، والذى أدخل مصر فى حالة من الحرب الأهلية الباردة التى اصطفت فيها القوى العلمانية والليبرالية فى جانب والجماعات الإسلامية فى جانب آخر. ولم يكن سرا أن جناحا من القوى الأولى تحالف مع النظام القائم آنذاك ضد الجماعات الإسلامية، التى اعتبرت الاثنين خصوما لا سبيل إلى التفاهم معهما. وحين سقط النظام استشعر الأولون أنهم يواجهون خطرا وجوديا فاستمروا فى حربهم، ولم يغير الآخرون نظرتهم إليهم فاستمروا على خصوصتهم وبادلوهم سوء الظن. ولم يخل الأمر من مفارقة، لأن الفريق الأول مارس معركته فى الفضاء الثقافى والإعلامى، أما الثانى فإنه خاض معركته على الأرض. وحين جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال الأولين على النحو الذى يعرفه الجميع، فإنهم ازدادوا شراسة فى حملتهم. شجعهم على ذلك سلسلة الأخطاء التى وقع فيها الأخيرون. وكانت النتيجة أن الطرفين اللذين اعتادا الاحتراب فيما بينهما، ولم يعملا معا يوما ما لم ينجحا فى صياغة علاقة عمل تسمح لهما بإدارة خلافاتهما على نحو إيجابى يرشد الخصومة ويقلل من سوء الظن. وإزاء استغراق الطرفين فى الحرب الباردة الدائرة بينهما، فإنهما استسلما لما بينهما من مرارات وحسابات. وظلت القاهرة مسرحا لذلك العراك البائس، الأمر الذى أدى إلى انفصالهما بصورة تدريجية عما يجرى خارج حدود العاصمة.
مشكلات المزارعين والمنتجين مع الحكومة والبيروقراطية، التى استفادت من انشغال القوى السياسية بصراعاتها، واستئثار مثقفى القاهرة وساسييها بالأضواء، فتراخت فى أدائها لمهامها ولم تحل شيئا من المشكلات التى يمكن أن تعالج بقرار حازم ومواجهة صريحة ومباشرة. وسواء كان السبب يرجع إلى الإهمال الجسيم أو الهروب من المسئولية فالشاهد أن قطاعى الزراعة والصناعة فى مصر أصبحا الضحية. وحين يكون الأمر كذلك فمن الطبيعى أن يصبح اقتصاد البلد فى خطر، كما أن أمنه القومى يصبح منكشفا ومهددا.
إن السؤال الذى يطرح نفسه فى المشهد الراهن هو: هل ذلك كله مجرد مصادفة أم أنه شىء مخطط ومرتب أو مسكوت عليه عمدا لحاجة فى نفس يعقوب. وأرجو ألا تسألنى عمن يكون «يعقوب»؟