توقعت مثل كثيرين ممن تابعوا جلسة النطق بالحكم على الرئيس المخلوع حسنى مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلى ومساعديه الستة أن الخطبة العصماء التى بدأ بها القاضى جلسة النطق بالحكم ولم تكن بها جملة عربية واحدة سليمة النطق لغوياً حيث كان يرفع المجرور وينصب المرفوع ودمر اللغة أعلاها وأسفلها لم تكن سوى قنبلة دخان سوف تسبق أحكاماً مخيبة للآمال إلى حد كبير، وهذا ما حدث بالفعل، وجعل كثيراً من رجال القانون والمعلقين يؤكدون أن هذه أحكام سياسية وليست جنائية، وإلا فما حاجة قاض يحاكم متهمين فى قضية جنائية أن يدبج حكمه بخطبة سياسية يدين فيها النظام ورئيسه ثم لا يحكم عليه إلا بما سمعه الناس؟ وكيف للقاضى أن يدلى بحكمه على مبارك والعادلى بالمؤبد بينما على مساعدى العادلى المكلفين بالتنفيذ بالبراءة وكأنه يعطى أى محامٍ بسيط الدليل والخيط لكى يستند لعوار الحكم - كما يقول فقهاء القانون - أمام محكمة النقض ويطالب ببراءة مبارك والعادلى طالما أن الأدلة التى استند إليها القاضى فى الحكم الأول لا تدعو للاطمئنان كما أن شهادة الشهود والأوراق التى تناولتها القضية والتى وصلت إلى 60 ألف ورقة ليس بها ما يدفع المحكمة إلى أن تصدر أحكاماً مشددة على الجميع.
إن عدم قدرة النيابة العامة من البداية على تقديم الأدلة الدامغة فى جريمة قتل جماعية ضد مدنيين عزل شاهدها العالم كله على شاشات التلفزة على مدى أسبوعين وتأكيد النيابة العامة فى دفوعاتها بأن أجهزة الدولة المختلفة لم تتعاون معها، لا سيما أجهزة المخابرات والأمن، لهو دليل وتأكيد على أن نظام مبارك لم يسقط وأن هناك تواطؤاً من البداية لحجب الأدلة، ومن ثم عدم إصدار أحكام لصالح الشهداء والجرحى والثورة التى قامت من أجل إسقاط نظام دبج القاضى خطبة عصماء ضده قبل إصداره الحكم بالبراءة.
لقد كانت أحكام البراءة التى صدرت خلال الأشهر الماضية من محاكم عديدة بحق عشرات الضباط الذين قاموا بالقتل المباشر لأبناء الشعب خلال الثورة مقدمة لأن قياداتهم سوف تلقى هذا الحكم الذى هو فى النهاية حكم بالبراءة على الجميع، لأن براءة مساعدى العادلى تعنى براءة العادلى ومبارك فى النقض، وإذا كانت النيابة العامة لم تقدم من الأدلة الدامغة لقاضى أول درجة ما يجعله مطمئناً لما أصدره من أحكام فأنى لها أن تقدم لقاضى الاستنئاف ما يجعله مطمئناً لتشديد العقوبة أو حتى إقرارها؟
إن الحكم على مبارك ورجاله لم يكن فى رأى كثيرين سوى رد اعتبار للنظام الذى ما زال يحكم وللحزب الوطنى الذى تم حله وللمجرمين الذين استحلوا دماء هذا الشعب وأمواله طوال العقود الماضية، كما كان إدانة للشعب الذى قام بهذه الثورة وإشارة - كما يرى كثيرون - إلى أن انتخابات الرئاسة فى الإعادة لن تأتى إلا بما يريده النظام الذى ما زال يحكم أن يأتى، وأن النخبة السياسية والجماعات الحزبية والتجمعات الشبابية سوف تدفع ثمن تكالبها على الغنيمة قبل أن تنتهى المعركة وتنجح الثورة.
إن ما يحدث على أرض مصر الآن يؤكد أن هناك قوى كانت من أول يوم لنجاح الثورة تنظم وترتب وتخطط وتنفذ وترسخ كافة أركان وقواعد النظام السابق، بدءاً من استمرار السيطرة على الحكم المحلى والحكومة وكافة أجهزة الأمن وإعادة بنائها مرة أخرى بكل رجالها، وأن هذه القوى تركت للقوى السياسية والوطنية التى قامت بالثورة أو شاركت فيها المجال والمساحة لكى تمارس كافة أنواع الكلام والاحتجاجات والهرطقة السياسية بينما كانت تمارس هى كافة أنواع التخطيط والتنظيم والاختراق لهذه التجمعات السياسية حتى وصل الحال الآن بنا إلى ما وصل إليه.
لقد اتسم أداء النخبة السياسية الوطنية المصرية بعد نجاح الثورة بالأنانية والمسلك الجائر والتصلب والتعصب والتخوين أحياناً وتنازع الجميع وتفرقوا ومن ثم فقد خيم الفشل على أدائها فيما كان النظام البائد ورجاله يعدون العدة للانقضاض على الثورة، وبدا ذلك واضحاً فى نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية فإذا لم يستيقظ الجميع ويستيعدوا روح الخامس والعشرين من يناير قبل جولة الإعادة فإن نظام مبارك لن يعاد إنتاجه فحسب، ولكن سيحكمنا حسنى مبارك مرة أخرى بعدما يحصل على البراءة من محكمة النقض