لا عاشوا ولا ماتوا بقلم : فهمي هويدي


حاول واحد ممن أصيبوا بالشلل فى أثناء ثورة25 يناير أن ينتحر فى الأسبوع الماضى، ولكنه أُنقذ قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. يئس الشاب من توفير نفقات العلاج ومن الحياة البائسة التى أصبح يعيشها، وأدرك أنه أصبح عبئا على أسرته وأنه بات بغير مستقبل بعدما تبخرت كل أحلامه وأسودت الدنيا فى عينيه. وهو ما أقنعه بأنه إذا ما انتحر فأنه سيضع حدا لعذاباته وعذابات المحيطين به.

لم يكن وحده الذى ألحت عليه فكرة الانتحار، لأن الفكرة تراود أغلب الذين أصيبوا بالشلل وتحولوا إلى جثث هامدة وهم فى عز شبابهم. إلا أن صاحبنا ذاك كان أكثر جرأة من نظرائه. هم يحسدون الذين ماتوا لأنهم نجوا من العذاب والمهانة، بل يحسدون أيضا غيرهم من ضحايا الثورة الذين أصيبوا بعاهات مستديمة باستثناء الذين فقدوا أبصارهم. حيث لايزال بمقدورهم أن يتحركوا دون أن يحملهم أحد ودون أن يتوسلوا إلى غيرهم لكى يقوم بذلك. الشلل جعلهم فى منزلة بين المنزلتين، فلا هم ماتوا ولا صاروا يعدون بين الأحياء.

يوم السبت 17/3 كتبت عن واحدة منهم، راندا سامى الممرضة التى حمت بجسدها جريحا كانت تداويه، وتلقت بدلا منه ضربات الجندى غليظ القلب الذى انهال على ظهرها بهراوته حتى كسر عمودها الفقرى. ومنذ ذلك الحين انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم نصف الأموات، وأودعت مركزا للتأهيل أضاف إلى بؤسها بؤسا جديدا. وتركت فى بيتها طفلين فى رعاية الله.

حين نشرت قصة هذه السيدة العظيمة، تلقيت اتصالات عدة من رجال ونساء يريدون أن يقدموا لها يد العون، وخطر لى أن أدعو إلى إنشاء صندوق لرعاية أصحاب الحالات المماثلة، من الرجال والنساء الذين أصيبوا بالشلل الرباعى، لأن وضعهم أسوأ بكثير من أوضاع غيرهم من المصابين. وقيل لى إن حالاتهم أكبر من أن يعالجها صندوق. لأن تكلفة علاجهم وتأهيلهم عالية، وأغلبهم يتطلب سفرا إلى الخارج، حيث إمكانيات التأهيل أفضل بكثير منها فى مصر. ثم إن العلاج يتطلب انتظاما فيه لفترة قد تصل إلى عدة أشهر، الأمر الذى يضاعف من الأعباء المالية عن الجهة الممولة أو الراعية.

أتوقف هنا لكى أسجل ملاحظتين. الأولى أننى إذا كنت قد نشرت قصة راندا سامى. وقبلها قصة عبدالهادى فرج، فإن غيرى قام بأفضل مما فعلت فى صمت النساك وزهد المتصوفة وتفانى الشهداء. أعنى بذلك أولئك النفر من النساء والرجال النبلاء الذين وقفوا إلى جانب المصابين بكل ما يملكون من جهد ومال، منذ سقطت أول نقطة دم فى الشارع المصرى. هؤلاء كانوا ولايزالون ثوارا منذ اليوم الأول. لكنهم اختاروا أن يظلوا جنودا مجهولين طول الوقت. وكانت الثورة بالنسبة إليهم عطاء مستمرا ولذلك تنزهوا عن أن يفعلوا ما فعله غيرهم، ممن أعطوا لبعض الوقت، ثم تفرغوا للأخذ والكسب بقية الوقت.

الملاحظة الثانية أننى لا أخفى شعورا بالخجل لأننى ما تعرفت على مثل تلك الحالات إلا بعد نحو عام من قيام الثورة. لكنى لا أعفى وسائل الإعلام عندنا لأن أغلبها شغل بالإثارة وبملاحقة المهرجين الذين حولوا الثورة إلى دكاكين للبيع والشراء، ومسرح لممارسة النجومية.

اتصلت هاتفيا بالدكتور حسنى صابر رئيس المجلس القومى لرعاية الشهداء والمصابين فقال لى إن المصابين بالشلل الرباعى أثناء أحداث الثورة عددهم الآن 24 شخصا، مصححا ما ذكرته ذات مرة بأنهم 12 شخصا وفهمت أنه لا توجد مزانية خاصة لعلاجهم، وان ثمة حسابا مفتوحا (500500) لأى اسهام فى علاج مصابى الثورة، أضاف أنه تم هذا الأسبوع الانتهاء من صرف تعويضات أغلب أسر الشهداء. (نحو 5000 أسرة) وسيبدأون فى صرف معاشات مصابى الشلل الرباعى بواقع 1720 جنيها شهريا لكل منهم، وسيتخصص لكل واحد منهم سكن بالطابق الأرضى كما ستوزع عليهم كراسى متحركة فى إطار الرعاية المفترضة.

حين نقلت هذه المعلومات إلى أحد ذوى الصلة بالموضوع فكان رده أن تلك وعود تتعلق بالمستقبل تطلق بعد عام من الأحداث. وأضاف أنه تلقى شكاوى من بعض المصابين ذكرت أنهم وعدوا حقا بتسلم الشقق بشرط أن يدفع الواحد منهم سبعة آلاف جنيه مقدما، وهو ما يعجز عنه أغلبهم إن لم يكن كلهم. وحين رجعت فى ذلك إلى الدكتور حسنى صابر كان رده أن مصابى الشلل الرباعى ستوزع عليهم المساكن بلا مقابل إذا كان عجزهم كليا.

لاتزال تلح علىَّ فكرة إقامة صندوق خاص لمصابى الشلل الرباعى، وأتمنى أن ينال الموضوع حقه من الدراسة قبل أى خطوة. وليته يلقى اهتماما من جانب إحدى لجان مجلس الشعب، الذى لم نلمس له جهدا فى هذا المضمار. وحبذا لو زارتهم لجنة المجلس فى مراكز التأهيل التى يعالجون فيها لإنقاذهم من المعاملة المزرية التى يلقونها فيها 
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

0 التعليقات

شارك بتعليقك

:: تصميم : ويب توفيل | تعريب وتطوير مدونة الاحرار - 2012 | | تحويل القالب الي بلوجر سمبل دزاين | تابعنا على الفيس بوك | سياسة الخصوصية::