بلال فضل يكتب .. يا مغرقنا


بقلم بلال فضل في   

المقالة التى ستقرؤها اليوم نشرتها فى سبتمبر 2007، أعيد نشرها للتذكير بجرائم كثيرة لن يحاكم عليها حسنى مبارك، وبشهداء كثيرين قتلتهم سياساته الفاشلة الظالمة المستبدة حرقا وغرقا وقهرا وكمدا، ولن يأخذوا حقهم إلا عندما يصل إلى كرسى الحكم ساسة يدركون أن خلاص هذه البلاد فى التنمية التى لا تنفصل أبدا عن العدالة الاجتماعية تحت أى مبرر، أتمنى أن تسهم هذه المقالة فى تذكير الحقوقيين والمحامين بملف الشباب الهاربين إلى الموت وغيره من الملفات التى تدين مبارك ورجاله سياسيا، ولا أدرى كيف يمكن أن تدينهم قضائيا ليكونوا عبرة لكل حاكم يهين بلاده وشعبه ويقدم مصالح أنجاله على مصالح الشعب. إنها مجرد تذكرة، وإذا كانت الذكرى لا تنفع الحكام، فما أجدرها أن تنفع الشعوب:

بلدنا هذا بلد عظيم. عندك اعتراض؟

.. ورئيسه مبارك رئيس عظيم. عندك مانع؟

لا تعرف عظمة البلد وعظمة رئيسه إلا من طريقة تعامله مع الغارقين من أبنائه. لذلك قلت لك بالفم الملآن إن بلدنا بلد عظيم ورئيسه رئيس عظيم لأنه قرر أن يعيد جثامين مئات الغارقين من أبنائه على سواحل المتوسط مجانا وعلى نفقة الدولة، طبقا للخبر الذى زفه إلينا السيد أحمد أبو الغيط ناظر الخارجية.

يااه.. والله كثر ألف خيرك يا مصر، وجزاك الله ألف خير عن كل الغارقين فى البر والبحر يا سيادة الرئيس الأب الحنون، نشكرك من قلوبنا الغارقة فى حبك مع أننا لم نفاجأ بقرار كهذا أبدا، فتجاربنا السابقة تؤكد لنا أنك لا تنسى أبناءك الغارقين أبدا، لكن أنا آسف فى السؤال: هل فكرت سيادتك أن تسأل جهازا مختصا عن عدد الذين غرقوا فى عهد سيادتك المديد؟ هل سألت الصحف الحكومية ووسائل إعلامك الرسمية لماذا لا تنشر عادة أسماءهم فى نعى رسمى باسم رئاسة الجمهورية؟ ولماذا لا تفكر سيادتك فى إقامة نصب تذكارى لهم فى أحد ميادين القاهرة أو حتى تحت أحد كباريها، ولنسمه نصب الجندى الغارق المنقول مجانا إلى بلاده بعد موته؟

بواخة الأسئلة لن تنسينا الاحتفاظ بجميل «الدليفرى» المبارك المجانى لجثث الغارقين. ليست المجانية غريبة علينا ألبتة. بلادنا تموت فى المجانية. واسألوا الغارقين عن حياتهم التى كانت كلها مجانية. تعليم خرب بالمجان، طب يداوى الناس وهو عليل بالمجان، كرامة مهدرة بالمجان، وفرص بطالة بالمجان، وأخيرا موت بالمجان لا يعكر صفوه سوى عدم معرفة الغارقين أن جثثهم ستنقل بالمجان لكى يتخلصوا من شعورهم بالندم لحظة مصارعة أمواج الغرق لأنهم سيتسببون فى شحططة أهاليهم.

أغلب الظن أنك لن تستطيع النوم اليوم لو تخيلت نفسك مكان الغارقين، بعد الشر عليك من الغرق، ستتقلب على الجنبين وأنت ترى وجوههم شاخصة ذاهلة تكتسحها الزرقة لتطرد ملامحها القمحية، لون مصر. هذا أغلب الظن، لكن المؤكد أن أحدا من الذين يحكمون هذه البلاد لن يشاركك فى أفكارك هذه أبدا، لأنه سيكون مضطرا إلى الصحيان مبكرا ليلحق بجلسات المؤتمر العام للحزب الوطنى جدا الديمقراطى خالص، الذى ينعقد فى أكثر الأماكن أمانا من الغرق تحت شعار «بلدنا بتتقدم بينا» لمناقشة وثيقة «وعدنا فأوفينا» التى تستعرض ما تم تحقيقه من إنجازات الرئيس مبارك، للأسف حرم الشباب الغارق نفسه من نعمة حضور هذا المؤتمر لعله يدرك كم كان مخطئا عندما ترك البلد مخضرًّا بالإنجازات واختار المجهول، شباب يرى أن بلدنا بتتقدم بينا مارش دير، شباب جاحد صبره قليل ونفسه قصير، ولولا أن الرئيس مبارك علمنا سعة الصدر وطولة البال لقلنا حلال فيه الغرق.

لو كنا نعرف أحدا نجا من الغرق لسألناه بلهفة: ما الذى يراه الإنسان وهو يصارع قبضة الماء التى تحيط برقبته، لعلنا نعرف ما القشة التى صارع الغارقون لكى يتعلقوا بها فى لحظاتهم الأخيرة؟ وأى صورة تكسرت أصابعهم على حوافها حال أن أدركهم الغرق؟ وجوه الحبيبات التى تعدهم وتمنيهم بأن يغرقوا فى الهناء والدلع «لما ربنا يكرمك وترجع»؟ أيادى الأمهات التى ترقيهم من شر بلدياتهم الحاسدين قلالات البخت «ماتقولش لحد إنك مسافر.. الحاجات دى بتتنظر يا كبدى»؟ عيون آبائهم التى تهرب من الالتقاء بأعينهم لكى لا تنهمر شلالات دموع تقل الهيبة وتقلّب المواجع وتذكّر بالعجز «كان نفسى أعمل لك حاجة يا ابنى بس إنت عارف اللى فيها»؟ همس الأصدقاء فى لحظات الحضن الأخير «إبقى ابعت لى لما تظبط أمورك.. ماتستندلش»؟ رائحة الشوارع المرشوشة بالميّة التى لعبوا فيها الكرة حفاة؟ عطر رمضان المعظم الذى حمدوا الله أن سفرهم تأخر حتى لا يقضوه بعيدا عن الأهل والعزوة؟ صوت النقشبندى وهو يغنى فى الفجر «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى.. من لى ألوذ به إلاك يا سندى»؟ متعة إفراغ الشهوة فى المنفذ المتاح (كف اليد) قبل أن يحل الندم وتتوجب التوبة؟ تسابقهم على أكل حروف صينية البسبوسة الناشفة، وقمصتهم من ظلم تقسيم المناب عند الغداء، ولمتهم على كنب الصالة أمام فيلم أبيض واسود مستعينين على إعادته للمرة الألف باللب والسودانى والتريقة؟ فرحتهم برائحة القلية ساعة الضهرية ورنة المحبوبة على العدة التى انتهت أقساطها والقميص الجديد قبل ما يوبّر؟ أحلامهم بشغلانة تجيب همها وليلة حمراء فى الحلال وعيال يطلع حظها أحسن من حظهم؟ صوت شيخ الجامع وهو ينهاهم عن سب الدهر ولعن الدنيا؟ كل هذا.. أم وجه رئيس أرادوا له أن يصير الوطن فعاشوا وغرقوا وهو لا ينفك يطلع عليهم من كل الصور مبتسما واثقا بمستقبل مسيرة الوطن، ومطمئنا محدودى الدخل أنهم لن يفقدوا أبدا المكان الذى حجزه لهم فى قلبه وعقله، وأنهم لن يفقدوا أبدا فرصتهم الأكيدة فى الغرق.. فى خيره.

يا ألف خسارة على ولادك يا مصر.

نسألكم الفاتحة لعل الله يثيبنا عليها بالخاتمة.
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

0 التعليقات

شارك بتعليقك

:: تصميم : ويب توفيل | تعريب وتطوير مدونة الاحرار - 2012 | | تحويل القالب الي بلوجر سمبل دزاين | تابعنا على الفيس بوك | سياسة الخصوصية::