فى صباح الاثنين (٥) يناير (١٩٨١) أُرسلت نسخة من صحيفة «الجيروزاليم بوست» الصادرة فى هذا اليوم إلى بيت الرئيس «أنور السادات».
فى أعلى يسار صفحتها الأولى تقرير خاص كتبه محررها لشئون الشرق الأوسط يتحدث عن صعود نفوذ نائبه «حسنى مبارك» وصراعات سلطة داخل القصر الجمهورى.
صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة أنباء الشرق الأوسط برقية موجزة تصف المعلومات بـ«الادعاءات والأكاذيب» دون أن تشر إلى طبيعة مادتها.
فى ذات اليوم قرر «السادات» إنزال عقاب جماعى بالصحيفة ومحرريها: ممنوع دخول أية أعداد تالية من الصحيفة أو منح أى من محرريها تأشيرات مصرية.
فى اليوم التالى (الثلاثاء) اعتبرت الصحيفة الإسرائيلية الإجراءات بحقها هى الأولى من نوعها ضد صحفيين إسرائيليين منذ السماح لهم بالعمل فى مصر بعد زيارة القدس. ونشرت تقريرا ثانيا لنفس المحرر فى الموضوع ذاته أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر يناقش خلافات التكتيك بين «السادات» و«مبارك» فى قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل!
الكلام الإسرائيلى يناقض بفداحة الصورة التى استقرت عن «مبارك» فى تلك الآونة.. فهو مادة سخرية بالمنتديات العامة تقلل من شأنه بينما هو فى التقرير الإسرائيلى ينازع على السلطة وله أنصار فى القصر الجمهورى.
فى التقرير روايات فيها مبالغة يصعب التسليم بها، ولكن التأكيد عليها لثلاثة أيام متتالية فى أهم صحيفة إسرائيلية فيه إشارات إلى المستقبل الذى عانينا منه وتحته حقائق غاطسة لا نعرفها حتى الآن.
«السادات» الغاضب لم يقرأ ما خلف النصوص من رسائل إلى المستقبل.. لم يتوقف عند فقرة أشارت إلى تقرير جديد للمخابرات الأمريكية يقول نصا: «يكفيه عشر سنوات فى الحكم وعليه أن يتركه الآن لمبارك».. وهذا ما تحقق بعد شهور قليلة من كتابة النص المثير. استحوذ على تفكير «السادات» هاجس «هيكل».. وذهب تفكيره إلى أنه هو مصدر معلومات التقرير الموسع.
طرح هواجسه أمام وزير الإعلام والثقافة فى ذلك الوقت «منصور حسن»، وهو مقرب ومحل ثقة. استبعد الوزير الشاب الفكرة تماما: «يا فندم.. هيكل لا يتصل بالإسرائيليين». لم تغادره الفكرة وهواجسها وطلب من وزير الإعلام أن يستقصى الحقيقة بنفسه من رئيس تحرير «البوست» الذى طلب زيارة القاهرة لإنهاء الأزمة مع الرئيس المصرى.
عندما وصل رئيس التحرير الإسرائيلى إلى القاهرة توجه مباشرة إلى مكتب السفير «حسن عيسى» مدير مكتب وزير الإعلام فى ذلك الوقت لينتقل معه إلى منزل الوزير الذى وجه سؤالا مباشرا: «لا أريد أن أعرف مصادر صحيفتك فى القاهرة.. لكن قل لى نعم أم لا.. هل هو هيكل؟». كان الرد: «لا».
ما الذى أغضب «السادات» إلى هذا الحد؟.. ولماذا تصور أنه «هيكل»؟. لابد أن شيئا حقيقيا وخطيرا حوته النصوص الإسرائيلية.
عند مطالعة النصوص تتجلى المفارقات عند ذروتها، فالمحرر الإسرائيلى الذى قضى أعياد رأس السنة فى القاهرة والتقى عددا من المسئولين المقربين قادته معلوماته إلى أن «السادات» يفكر فى إعادة هيكلة الحكومة لإحباط محاولة نائبه الإمساك بالسلطة، وأن «مبارك» يخوض صراعا عليها مع مقربى الرئيس إن لم يكن الرئيس نفسه. المفارقة الأولى، أن القصة الإسرائيلية توحى بصورة رجل قوى ينازع على السلطة، وهذه لم تكن صورة «مبارك».. والمفارقة الثانية، أن «السادات» محبط من صعود النفوذ السياسى لنائبه ويريد أن يوقف هذا الصعود، ولكنه لا يقدر، دون أن تذكر الرواية الإسرائيلية أسبابا مقنعة لعجز «السادات» عن إطاحة «مبارك». المفارقة الأخيرة هى جوهر غضب «السادات»، مصير رئاسته ومصيره هو بعد أن رهنهما فى البيت الأبيض. القصص المنشورة بعضها حقيقى والآخر متخيل، ولكن المعنى واصل فى الحالتين أن هناك رهانا على رجل آخر غير الذى تمنح له جائزة «نوبل» وتحيطه أضواء باهرة حيث يحل ويتكلم.
الفرضية الرئيسية هنا أن «مبارك» هو خيار الولايات المتحدة وإسرائيل لخلافة «السادات» الذى يتعين عليه أن يفسح المجال أمامه، فلم يكن «مبارك» شخصية قيادية أو عندها خيال، ولكنه بدا مأمونا فى مطابخ صناعة القرار يمكن أن يضمن المصالح الأمريكية والإسرائيلية أكثر من الرجل الذى وقع معاهدة السلام ودخل مشاحنات داخلية وإقليمية غلبت عليها العصبية.
مصادر مقربة من «السادات» عارضت أن يكون «مبارك» خليفته، فالأخير «كتوم» و«مبهم» وعقليته العسكرية قد تأخذ البلد لحكم ديكتاتورى هكذا تقول التقارير الإسرائيلية.
بدأت إذن الحرب.
فى بعض لقاءاته مع الرئيس اشتكى النائب من أنه تمنع عنه حقوق وامتيازات فى مجلس الوزراء والحزب الوطنى من إناس يفترض أن يكونوا تحت رئاسته، وأنهم يتباهون عليه بقوة علاقاتهم مع الرئيس.
يذكر التقرير بالاسم أربع شخصيات مقربة من «السادات» تناهض صعود «مبارك».. السيدة «جيهان السادات» قرينة الرئيس و«سيد مرعى» رئيس مجلس الشعب و«عثمان أحمد عثمان» الوزير النافذ والاثنان تربطهما علاقات مصاهرة مع الرئيس بالإضافة إلى رئيس الوزراء «مصطفى خليل» وتأثيره واصل إلى التكنوقراط وأصحاب المؤسسات المالية.
وبشكل أو آخر كسب «مبارك» الصراع، لا لكفاءته فى إدارتها، بل بضغوط دولية تمنع إطاحته من منصب النائب.
أدرك «مبارك» أن مشاكله مع رجال «السادات» تقلل من صلاحياته ولكنه «مُصر على الصمود والقتال». العبارة الأخيرة بنصوصها تناقض ما هو شائع ومعروف عن شخصية «مبارك»، ويبدو أن الصحيفة الإسرائيلية حاولت أن توظف معلوماتها عن صراعات القصر الجمهورى بأكثر من حجمها لرسم صورة جديدة للرجل القادم فى مصر.
فى تلك الأيام تعددت لقاءات «مبارك» الأمريكية والخليجية، قام بجولات فى البلاد العربية أكثر من أى مسئول رسمى آخر عالى المستوى، بدا مدعوما من واشنطن وتل أبيب معا.. وربما لم يكن بوسع «السادات» إطاحته بسهولة دون تعقيدات مع حلفائه الجدد. وهى تعقيدات أخذت مدى مختلفا بعد صعود «رونالد ريجان» للبيت الأبيض على حساب «جيمى كارتر» الذى كان يصفه «السادات» بـ«صديقى».
يذكر التقرير الإسرائيلى الموسع أن «السادات» افتتح فى الكواليس مناقشات ومشاورات عن تغييرات فى الإدارة التى استطاع «مبارك» أن يطيح منها على التوالى بعدد من أقرب مساعدى الرئيس، فقد جرى إلغاء إدارة الأزمات التى يديرها «أشرف مروان» وإبعاد «حسن كامل» رئيس الديوان و«سعد زغلول نصار» المتحدث باسم الرئاسة والمشير «عبدالغنى الجمسى» المستشار العسكرى. نقل التقرير عن رئيسة التليفزيون «همت مصطفى» المقربة من «السادات» قلقها من صعود «مبارك».
بصورة أو أخرى جرى تفريغ مؤسسة الرئاسة التى باتت تدار من خلال رجلين: أولهما، «فوزى عبدالحافظ» سكرتير الرئيس.. وثانيهما، «محمود عبدالناصر» المساعد الإدارى. وهو نفس النهج الذى اتبعه «مبارك» عندما أصبح رئيسا. فى ذلك الوقت نصح اللواء «سعيد الماحى» رئيس المخابرات العامة الرئيس «السادات» بـ«تنظيف المنزل». حذر «الماحى» من اهتمام السفارة الأمريكية بالصراع بين «مبارك» وخصومه، والأمريكان بنص التقرير الإسرائيلى: «يريدون رفع شأن نائب الرئيس وتحسين صورته». هذه الإشارة بالذات تدخل فى حسابات المستقبل.
كانت المعضلة الرئيسية فى سيناريوهات نقل السلطة إلى النائب أنه «مكروه» داخل المؤسسة العسكرية. تجاوز «السادات» باختياره نائبا عام (١٩٧٥) الأقدمية العسكرية التى تضع قبله وزير الدفاع المشير «عبدالغنى الجمسى» ورئيس هيئة الأركان الفريق «محمد على فهمى».
يلفت الانتباه هنا مصرع الفريق «أحمد بدوى» وزير الدفاع وبصحبته عدد كبير من قادة القوات المسلحة بعد شهرين من نشر التقرير الإسرائيلى على ثلاثة أعداد متتالية فى «الجيروزاليم بوست».. وصعد نجم «محمد عبدالحليم أبوغزالة» فى وزارة الدفاع بجوار حليفه «النائب».
سياق الأحداث التى وصلت إلى ذروتها باغتيال «السادات» فى خريف نفس العام يطرح التساؤلات ويستدعى التحقيقات والنظر فى الملفات القديمة. ملف «مبارك» كله يحتاج فحصا أوسع وأشمل ومحاكمات تتقصى ما جرى على مدى ٣٦ عاما نائبا ورئيسا.
كان السؤال الشاغل للصحيفة الإسرائيلية فى تقريرها الموسع: «ماذا لو أصبح مبارك رئيسا؟». كانت الإجابات تذهب إلى أن حكومة يديرها لن تؤثر أو تخدش عملية السلام، وإنه سيحاول بطريقة فعالة إصلاح علاقات مصر مع الدول العربية ويعيد إحياء العلاقات مع الاتحاد السوفييتى، وسيعمل على لفت نظر الولايات المتحدة إلى ضرورة مواصلة المساعدات من أجل حماية السلام، وأن التطبيع سيكون فى حده الأدنى طالما أن إسرائيل لم توقع اتفاقات أخرى مع دول المواجهة وحل القضية الفلسطينية. السلام على هذا النحو سيكون مغايرا لما هو عليه مع «السادات»، والمعنى أنه أكثر استقرارا، وقد يفضى إلى تعميم السلام عربيا، أو تعريب «كامب ديفيد». وهو فعلا ما تحقق على مدى ثلاثين عاما مفضيا إلى تقزيم الدور المصرى بصورة فادحة ومأساوية.
قصة «مبارك» لم تكتب بعد، حقائقها الكبرى لم تستبين بدورها.
فى التقرير الإسرائيلى بعض مبالغات من يعرف أنه يبالغ وبعض ادعاءات من يدرك أنه يدعى، لكن حقائق القوة ظاهرة والاختيارات نهائية قبل صعوده للرئاسة: «هذا رجلنا».