هذه أيام الحسم في مصر، انتخابات الرئاسة تنطلق بعد غد الأربعاء، السلطة في القاهرة يتداعى عليها الطامعون كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، محاولات مستميتة لإبقاء نظام مبارك دون مساس، رجال النظام الذين ما زالوا في مواقعهم -وهم كثر- ومعهم من خرجوا من جنته يخوضون «المعركة الأخيرة»، مصالحهم تلاقت مع نظرة «العسكر» لـ «مؤهلات» من يحكم خلال المرحلة المقبلة. إذا لم يكن واجهة لهم و «عجينة» طرية يشكلونها كما يريدون فأقل الضررين ألا يفتح ملفات دماء الضحايا التي سالت في عهدهم من أحداث «ماسبيرو» إلى شارع «محمد محمود» مرورا بمحيط «مجلس الوزراء» وانتهاء بـ «العباسية»، وقبل هذا وبعده يترك لهم مغانمهم و «دولتهم» الاقتصادية الممثلة في المصانع والأراضي التي لا تخضع لأي رقابة والتي يقدرها خبراء بـ%30 من ميزانية الدولة. مصالح الطرفين معا تتشابك مع رغبة أنظمة خارجية في إعادة إنتاج «مبارك» جديد يضمن لهم استمرار «انكسار» مصر والهبوط بمكانتها، فضلا عن إخماد الثورة ومنع انتقال شررها إلى خارج الحدود المصرية و «يا دار ما دخلك شر».«الإخوان المسلمون» هم الرقم الصعب في هذه المعادلة. إنهم العدو المشترك لكل هذا الخليط من «الأكلة». بقايا النظام تدرك أن «الجماعة» هي الأقوى تأثيرا في الشارع، والأكثر ضما لكفاءات علمية وأكاديمية وسياسية على كل لون (من فضلك راجع مؤهلات ومزايا خيرت الشاطر ومحمد مرسي وعصام العريان وسعد الكتاتني وغيرهم من قيادات ورجالات الجماعة). العسكر يعرفون أن «الإخوان» بقاعدتهم العريضة لن يكونوا أداة طيّعة طائعة. أما أنظمة الخارج فتضع أياديها على قلوبها خشية أن تتولى الجماعة -التي تمتد إلى أرجاء المعمورة- حكم أكبر بلد في المنطقة، ومن ثم يأخذ «الفروع» في تلك الدول إكسير الحياة ويتطلعون لتكرار تجربة «الأصل» في مصر. المؤشرات الأولية لنتائج تصويت المصريين بالخارج التي أظهرت تقدم المرشح الإخواني في السباق زادت من مخاوف هذا الثالوث.
الشواهد في هذا كثيرة.. رجال وأقزام مبارك يدركون أن الأرضية كانت مهيأة خلال انتخابات مجلس الشعب الأخيرة لاكتساح «إخواني». هم أكثر من غيرهم يعرفون أنهم بالتزوير الفج الفاضح استولوا على كراسي البرلمان بعد سقوط مزرٍ أمام مرشحي الجماعة طوال السنوات الماضية. توارى عقلاء «الفلول» خلال الانتخابات الماضية. انحنوا أمام الموجة حتى تمر بسلام، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث. أحد هؤلاء مثلا رجل الأعمال البارز في المجال السياحي منصور عامر، استفاد من عضوية أمانة السياسات بالحزب الحاكم «سابقا» وهي الأمانة التي اخترعها جمال مبارك لتكون الجهة المنوطة بالتخديم على مشروع «توريث السلطة». عامر حصل على أراض بملاليم وربح منها مليارات. هو يعرف أنه سقط بالثلاثة دورتين أمام المحامي الإخواني ناصر الحافي، لكنه دخل البرلمان بقوة الذراع. بعد الثورة دخل عامر في عملية «غسيل سمعة». فعل مثل عادل إمام في فيلم مرجان أحمد مرجان. استعان بمن كتب له كتابا اسمه «خريطة الأمل» يتضمن فكرة ساذجة بإعادة ترسيم حدود محافظات مصر. دخل في حملة إعلانية شاركت فيها عدة صحف كبرى. كانت فضيحة أن نشرت مقتطفات من الكتاب التافه مع وضع أسئلة عليها ليبدو الأمر في صورة حوار. ما يفقع المرارة -وأشياء أخرى- أن الرجل تمادى في غيه وحاول الضحك على الناس وكأنهم رضعا سذجا لا يفقهون بالقول إنه قدم مشروع ما ورد في الكتاب لحزبه الحاكم «المنحل»، لكنهم في الحزب كانوا يحاربونه فمنعوا تنفيذ أفكاره!
ولأن عامر كان يستعين بمجموعة مستشارين من رؤساء التحرير وكبار الصحافيين، فإننا أهل المهنة نعرف أنهم أشاروا عليه بإنشاء مؤسسة إعلامية ضخمة تضم عدة قنوات تلفزيونية وصحيفة يومية ومركز أبحاث وإذاعة تكون بمثابة سياج يحميه، ويمنع العين والقيل والقال عنه. بمجرد الإعلان عن الأمر وأن منصور عامر هو الممول والداعم للقناة الفضائية التي استهلت بها المجموعة عملها، حتى لاقت اعتراض واستهجان الجماهير ووصفوها بقناة «الفلول»، هنا اجتمع المستشارون ورأوا أنه من الأنسب له ولهم إبعاده تماما عن الصورة، فتم الزج بشريكه ويدعى محمد الأمين ليكون الواجهة. ولما جاء وقت إصدار الصحيفة حدث ما يشبه الزلزال في الصحف المصرية. حملة إعلانات ضخمة وكأن «الجارديان» بجلالة قدرها ستصدر من المحروسة. يصاحب ذلك إغراءات مادية غير مسبوقة لاجتذاب الصحافيين من مختلف المطبوعات. وصلت الأجور لأرقام فلكية. رئيس التحرير عقده السنوي مليونا جنيه من الصحيفة وحدها إلى جانب 180 ألف جنيه شهريا عن برنامج أسبوعي في القناة الفضائية. «بعزقة» الأموال بهذا الشكل أثارت الكثير من التساؤلات. عرضوا على رئيس تحرير تنفيذي في جريدة منافسة أن يعمل معهم مديرا للتحرير بــ100 ألف جنيه شهريا مع الحصول على راتب سنة مقدما. الحكاية سمعتها من هذا الزميل بلسانه. لكنه اعتذر بعدما شك في مصدر هذه الأموال. كثير من العاملين بالمهنة يقولون إنها تصل في منبعها إلى «طرة»، والمقصود بالتعبير رموز النظام السابق المحتجزون في سجن «طرة» على ذمة قضايا التربح غير المشروع. الألسن تتداول اسمي إمبراطور الحديد «أحمد عز» و «أشرف» نجل صفوت الشريف الرجل الأساسي الدائم في نظام مبارك.
أما ما زاد من الدور المشبوه الذي تلعبه هذه المؤسسة فهي العلاقات المعروفة والمعلنة لمنصور عامر ومحمد الأمين مع أحد البلدان الخارجية. هناك من يقسم أن هذا البلد يضخ أكواما من المال في شرايين هذه المؤسسة خدمة لأهدافه المتمثلة في محاربة «الإخوان».
المعلومات تقول إن رجال مبارك يعيدون تنظيم صفوفهم استعدادا للانتخابات البرلمانية المقبلة، والبداية عبر سيطرتهم على مختلف المؤسسات الإعلامية ومنها المؤسسة الجديدة. ملاك الفضائيات كلهم أهل «بزنس» ومصالحهم ترتبط بشكل أو بآخر مع سكان «طرة». من هنا يمكن فهم الحملة الشرسة الحالية ضد «الإخوان المسلمين»، مع الاعتراف أن هناك أخطاء بالفعل وقعت فيها الجماعة، لكنها أخطاء ضمن الممارسة السياسية العادية تستحق النقد لا الذبح. عملية حرق الجماعة بدأت منذ فوزهم بأغلبية مجلس الشعب. المجلس العسكري أسهم بدور في العملية. حشرهم في برلمان بلا صلاحيات.. مجرد قاعة يتكلمون تحتها دون أن تترك أثرا أو تأثيرا على حياة المواطن. من هنا بدأ الإعلام استكمال المهمة بالترويج لفكرة أن «الإخوان» منذ دخلوا البرلمان لم يفعلوا شيئا. يعمل المرتبطون بـ «الفلول» و «العسكر» على خلق رأي عام بأن المواطنين يعضون أصابع الندم على التصويت لـ «الإخوان»، وأنهم يحنون لأيام استقرار مبارك. الجماعة انتبهت مؤخرا للفخ وفهمت اللعبة، فطالبت بالمشاركة في السلطة التنفيذية حتى يمكنها ترجمة أفكارها وبرامجها إلى واقع يفيد المواطن. هنا كانت التهمة الجاهزة المعلبة في وجه «الإخوان»: يريدون «التكويش»على كل شيء.
الصحيفة المذكورة وضحت توجهاتها تماما من أول عدد.. رسائل معينة تنضح بها السطور لمهاجمة «الإخوان المسلمين». وكله يصب لخدمة الممولين من «الفلول» والخارج، فضلا عن «العسكر» الذين يراقبون المشهد باستمتاع.
حاليا الجميع يشارك في السخرية من مرشح الجماعة في انتخابات الرئاسة الدكتور محمد مرسى، يصفونه بـ «الاحتياطي» لخيرت الشاطر المرشح الأصلي الذي تم استبعاده. لكن لو كان بينهم منصف لاعترف أن ترشيح «مرسي» ذكاء سياسي لمواجهة ألاعيب أهل السلطة. وضَع «الإخوان» كل الحسابات وأخذوا المبادرة ولم يتركوا شيئا للصدفة.
«العسكر» لم يكتفوا بمتعة المراقبة، بل دخلوا على الخط، وبحسب معلومات نشرتها صحيفة «الشروق» المصرية فإن أحد أعضاء المجلس العسكري الحاكم هو من وجه قيادات من السلفيين لعدم دعم مرشح الجماعة لتقليل فرص فوزه وإفساح الطريق أمام نجاح المرشحين الذين تجتمع على تأييدهم كل ألوان الفلول والخارج و «العسكر»: عمرو موسى وأحمد شفيق.
أما «مصر» فهي آخر من يفكر فيه هذا الحلف غير المقدس




