فقراؤنا المنسيـون - فهمي هويدي

من يتابع الإعلام المصرى يخيل إليه أن القوى السياسية والمثقفين المشايعين لها استولوا على البلد، وما برحوا يتعاركون فيما بينهم حول أنصبتهم منها، ذلك أن صدارة الصحف اليومية ونشرات الأخبار والبرامج الحوارية المسائية التى تبثها مختلف قنوات التليفزيون، لا تتحدث منذ أكثر من عام إلا عن تجاذبات القوى والجماعات السياسية سواء فيما بينها، أو بينها وبين المجلس العسكرى. منذ إعلان التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها فى شهر مارس من العام الماضى. وحتى قضية الجمعية التأسيسية ومعايير اختيار أعضائها وأزمة مجلس الشعب مع الحكومة والمجلس العسكرى المثارة هذه الأيام، لم يتوقف الجدل بين السياسين والمثقفين، حتى بدا الحوار الظاهر على السطح وكأنه نخبوى وقاهرى بالدرجة الأولى، الأمر الذى أعطى انطباعا بأن تلك النخب القابعة فى القاهرة قررت أن تحتكر الواجهة والمشهد لصالحها، وان تفرض على المجتمع أولوياتها وحساباتها ومخاوفها.

ذلك ما تدل عليه الملاحظة الدقيقة. إذ ليس لدينا للأسف أى قياس علمى لاهتمامات الناس، يوضح لنا كم عدد المشغولين بأيهما أولا الانتخابات أم الدستور، أو بحكاية الدولة المدنية والدينية أو بمعايير اختيار أعضاء لجنة الدستور والفئات التى يجب أن تمثل فيها، أو بالمادة 28 التى حصنت قرارات لجنة الانتخابات.

لا أقلل من أهمية هذه الأمور، لكن استمرار التركيز الإعلامى عليها يصرف الاهتمام عن مشكلات الفقراء والجماهير العريضة، الأمر الذى يجعل شواغل عدة مئات من المثقفين والسياسيين حاجبة لهموم عشرات الملايين من البسطاء والفقراء. وإذا كان ذلك يعزل النخبة عن المجتمع المحيط بهم، فلن نستطيع أن نتحدث عما يسببه ذلك الانكفاء على الذات من عزلة أخرى عن هموم الأمة أو عن العالم الخارجى.

إن ملايين الفلاحين تأثرت أوضاعهم بانتشار وباء الحمى القلاعية الذى أباد الآلاف من رءوس الماشية، وفشلت محاولات إيقافه أو التحصين ضده. بل إن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) أصدرت فى الأسبوع الماضى تحذيرا من انتقال الوباء إلى قطاع غزة، وتهديده لبقية دول الشرق الأوسط. وشكوى الفلاحين مُرَّة من إهمال الصرف الصحى الذى أدى إلى إفساد عملية الرى وغمر بعض المحاصيل بالطين. ولقطاع الصناعة همومه التى تسببت فى إغلاق نحو 850 مصنعا بعد الثورة، مما أدى إلى تشريد آلاف العمال وزيادة معدلات البطالة. ذلك بخلاف الإضرابات والاعتصامات التى أدت إلى شل عجلة الإنتاج وتعطيل عملية التصدير. أما قطاع الخدمات التعليمية والصحية فكوارثه معلومة، لا ينافسها فى الفجيعة سوى أجهزة الإدارة المحلية التى يرتع فيها الفساد بغير ضابط ولا رابط.

لا أتحدث عن حل تلك المشكلات ــ وما ذكرته قطرة فى بحر ــ التى أفهم خلفياتها وأدرك حاجتها إلى علاج طويل المدى، ولكنى أتحدث عن الانصراف عنها وعدم إدراجها ضمن قائمة اهتمامات النخب القاهرية المستغرقة فى معاركها وتصفية حساباتها.

قرأت أن بيانا أعد عن حصيلة مائة يوم من عمر مجلس الشعب بعد انتخابه، وطبقا لما نشرته جريدة الشروق (فى 5/5) منسوبا إلى الأمين العام للمجلس المستشار سامى مهران، فإن أعضاء المجلس قدموا خلال تلك الفترة 900 طلب إحاطة وسؤال إضافة إلى 200 بيان عاجل، منها 70 بشأن أزمة نقص أنابيب البوتاجاز و35 عن أزمة رغيف الخبز و48 عن أزمة البطالة و25 عن الإصابة بالحمى القلاعية و30 عن نقص المعروض من الأسمنت. كما قدم إلى المجلس 80 اقتراحا برغبة حول العديد من الأزمات إضافة إلى مناقشة قضية الانفلات الأمنى. خلال تلك الفترة أيضا أنجز المجلس 9 مشروعات قوانين، كان أبرزها تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، لمنع فلول النظام السابق من اختراق المشهد السياسى.

هذه المعلومات إذا صحت فهى تعنى أن التيارات والقوى السياسية تتحرك فى واد، فى حين أن مجلس الشعب الذى انتخبه الناس يتحرك فى واد آخر، وأن وسائل الإعلام منخرطة فى صَخَب السياسيين والمثقفين بأكثر من انحيازهم إلى هموم الناس المباشرة والحياتية.

أصنَّف هذه الحالة الشاذة ضمن تشوهات الحياة السياسية التى خلفها النظام السابق، وأدت إلى تجاهل الفقراء وإلى تفكيك النخب وتعميق المرارات بين مكوناتها. لكنى لا أعفى الرموز السياسية والمثقفين من الاستسلام لتلك الحالة والاستمرار فيها، رغم أن الثورة يفترض أن تحدث انقلابا فى منظومة القيم السائدة. بحيث تستمد النخبة شرعيتها من التعبير عن المجتمع وليس الاستعلاء عليه. وبحيث لا يعلو هم فوق هم جماهير الشعب
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

0 التعليقات

شارك بتعليقك

:: تصميم : ويب توفيل | تعريب وتطوير مدونة الاحرار - 2012 | | تحويل القالب الي بلوجر سمبل دزاين | تابعنا على الفيس بوك | سياسة الخصوصية::